سورة الزمر - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}
{إِن تَكْفُرُواْ} به تعالى مع مشاهدة ما ذكر من موجبات الإيمان والشكر {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} أي فاخبركم أنه عز وجل غنى عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} لما فيه من الضرر عليهم {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ} أي الشكر {لَكُمْ} لما فيه من نفعكم، ومن قال بالحسن والقبح العقليين قال: عدم الرضا بالكفر لقبحه العقلي والرضا بالشكر لحسنه العقلي، والرضا إما عنى المحبة أو عنى الإرادة مع ترك الاعتراض ويقابلة السخط كما في «شرح المسايرة» فعباده على ظاهره من العموم، ومنهم من فسره بالإرادة من غير قيد ويقابله الكره وهؤلاء يقولون قد يرضى بالكفر أي يريده لبعض الناس كالكفرة ونقله السخاوي عن النووي في كتابه «الأصول والضوابط». وابن الهمام عن الأشعري. وإمام الحرمين كذا قاله الحفاجي في حواشيه على تفسير البيضاوي. والذي رأيته في الضوابط وهي نسخة صغيرة جدًا ما نصه مسألة مذهب أهل الحق الإيمان بالقدر وإثباته وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله تعالى وقدره وهو مريد لها كلها ويكره المعاصي مع أنه سبحانه مريد لها لحكمة يعلمها جلا وعلا، وهل يقال إنه تعالى يرضي المعاصي ويحبها فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمام الحرمين وغيره، قال إمام الحرمين في الإرشاد: مما اختلف فيه أهل الحق إطلاق المحبة والرضاء، فقال بعض أصحابنا لا يطلق القول بأن الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} ومن حقق من أتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة بل قال الله تعالى يريد الكفر ويحبه ويرضاه والإرادة والمحبة والرضا عنى واحد قال: والمراد بعباده في الآية الموفقون للإيمان وأضيفوا إلى الله تعالى تشريفًا لهم كما في قوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] أي خواصهم لأكلهم اه فلا تغفل عن الفرق بينه وبين ما ذكره الخفاجي، وحكى تخصيص العباد في البحر عن ابن عباس.
وقيل يجوز مع ذلك حمل العباد على العموم ويكون المعنى ولا يرضى لجميع عباده الكفر بل يرضاه ويريده لبعضهم نظير قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} [الأنعام: 103] على قول، ولعلامة الأعصار صاحب الكشف تحقيق نفيس في هذا المقام لم أره لغيره من العلماء الأعلام وهو أن الرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدي بنفسه فإذا قلت: رضيت عن فلان فإنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا في مقابلة سخطت عليه وبينهما فرقان أنك إذا قلت: رضيت عن فلان بإحسانه لم يتعين الباء للسببية بل جاز أن يكون صلة مثله في رضيت بقضاء الله تعالى وإذا قلت: سخطت عليه باساءته تعين السببية فكان الأصل هاهنا ذكر الصلة لكنه كثر الحذف في الاستعمال بخلافه ثمت إذ لا حذف، وإذا قيل: رضيت به فهذا يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدًا للمعنى ليكون أبلغ تقول: رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله عز وجل ربا وقاضيًا، وقريب منه سمعت حديث فلان وسمعته يتحدث وإذا عدى بنفسه جاز دخوله على الذات كقولك: رضيت زيدًا وإن كان باعتبار المعنى تنبيهًا على أن كله مرضى بتلك الخصلة وفيه مبالغة وجاز دخوله على المعنى كقولك: رضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالًا وهو على نحو قولهم: حمدت زيدًا وحمدت علمه، وأما إذا استعمل باللام تعدى بنفسه كقولك رضيت لك هذا فمعناه ما سيجيء إن شاء الله تعالى قريبًا، وإذا تمهد هذا لاح لك أن الرضا في الأصل متعلقة المعنى وقد يكون الذات باعتبار تعلقه بالمعنى أو باعتبار التمهيد فهذه ثلاثة أقسام حققت بأمثلتها وأنه في الحقيقة حالة نفسانية تعقب حصول ملائم مع ابتهاج به واكتفاء فهو غير الإرادة بالضرورة لأنها تسبق الفعل وهذا يعقبه، وهذا المعنى في غير المستعمل باللام من الوضوح كان لا يخفى على ذي عينين، وأما فيه فإنما اشتبه الأمر لأنك إذا قلت: رضيت لك التجارة فالمراضي بالتجارة هو مخاطبك وإنما أنت بينت له أن التجارة مما يحق أن يرضى به وليس المعنى رضيت بتجارتك بل المعنى استحمادك التجارة له فالملاءمة هاهنا بين الواقع عليه الفعل والداخل عليه اللام ثم إنه قد يرضى بما ترضاه له إذا عرف وجه الملاءمة وقد لا يرضى، وفيه نجوز إما لجعل الرضا مجازًا عن الاستحماد لأن كل مرضى محمود أو لأنك جعلت كونه مرضيًا له نزلة كونه مرضيًا لك فاعلم أن الرضا في حق الله تعالى شأنه محال لأنه سبحانه لا يحدث له صفة عقيب أمر البتة فهو مجاز كما أن الغضب كذلك إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده وإما من أسماء الأفعال إذا أريد الاستحماد وأن مثل قوله تعالى: {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119] إما من باب المشاكلة وإما من باب المجاز المذكور، وأن مثل قوله سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا} [المائدة: 3] متعين أن يكون من ذلك الباب بالنسبة إلى من يصح اتصافه بالرضا حقيقة أيضًا فإذن قوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} كلام وارد على نهجه من غير تأويل دال على أنه جل شأنه لا يستحمد الكفر لعباده كما يستحمد الاسلام لهم ويرتضيه، وأما أنه لا يرد الكفر أن يوجد فليس من هذا الباب في شيء ولا هو من مقتضيات هذا التركيب وأن الخروج إلى تخصيص العباد من ضيق العطن وأن قول المحققين رضي الله تعالى عنهم: إن الطاعات برضى الله تعالى والمعاصي ليست كذلك ليس لهذه الآية بل لأن الرضا بالمعنى الأصلي يستحيل عليه تعالى وقد أخبر أنه رضي عن المؤمنين بسبب طاعتهم في مواضع عديدة من كتابه الكريم.
والزخشري عامله الله تعالى بعدله فسر الرضا في نحوه بالاختيار وهو لا ينفك عن الإرادة، وأنت تعلم سقوطه مما حقق هذا ثم إنا نقول: لما أرشد سبحانه إلى الحق وهدد على الباطل إكمالًا للرحمة على عباده كلهم الفريقين بقوله تعالى: {ءانٍ} إلى قوله سبحانه: {تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} تنبيهًا على الغني الذاتي وأنه سبحانه تعالى أن يكون أمره بالخير لانتفاعه به ونهيه عن الشر لتضرره منه، ثم في العدول عن مقتضى الظاهر من الخطاب إلى قوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} ما ينبه على أن عبوديتهم وربوبيته جل شأنه يقتضي أن لا يرضى لهم ذلك، وفيه أنهم إذا اتصفوا بالكفر فكأنهم قد خرجوا عن رتبة عبوديته تعالى وبقوا في الذل الدائم ثم قيل {يَرْضَهُ لَكُمْ} للتنبيه على مزيد الاختصاص فهذا هو النظم السري الذي يحاردون إدراك طائفة من لطائفة الفكر البشري والله تعالى أعلم اه. وهو كلام رصين وبالقبول قمين إلا أنه را يقال إنه: لا يتمشى على مذهب السلف حيث أنهم لا يؤولون الرضا في حقه تعالى وكونه عبارة عن حالة نفسانية إلى آخر ما ذكر في تفسيره إنما هو فينا وحيث أنه ذاته تعالى مباينة لسائر الذوات فصفاته سبحانه كذلك فحقيقة الرضا في حقه تعالى مباينة لحقيقته فينا وأين التراب من رب الأرباب، وقد تقدم الكلام في هذا المقام على وجه يروي الأوام ويبرىء السقام فنقول عمد التأويل لا يضر فيما نحن بصدده فالرضا ان أول أو لم يؤول غير الإرادة لحديث السبق والتأخر الساق، وممن صرح بذلك ابن عطية قال: تأمل الإرادة فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد والرضا حقيقته إنما هي فيما وقع واعتبر هذا في آيات القرآن تجده وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا.
وقد ذهب إلى المغايرة بينهما بما ذكر هنا ابن المنير أيضًا إلا أنه أول الرضا وذكر أنه لا يتأتى حمله في الآية على الإرادة وشنع على الزمخشري في ذلك جزاء ما تكلم على بعض أهل السنة المخالفين للمعتزلة في زعمهم اتحاد الرضا والإرادة وأنه تعالى قد يريد ما لا يفعله العبد وقد يفعل العبد ما لا يريده عز وجل فقال: هب أن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين أو في ميزان عقله غين اليس يدعى أو يدعي له أنه الخريت في معابر العبارات فكيف هام عن جادة الإجادة في بهماء وأعار منادي الحذاقة أذنا صماء اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقًا وغطى على مكشوف العبارة فسحقا سحقًا أليس مقتضى العربية فضلًا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط فلا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلًا ولا مضيه واستقبال الشرط لغة ونقلًا واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وأهل البدعة أن إرادة الله تعالى لشكر العباد مثلًا مقدمة على وجود الشكر منهم فحينئذ كيف ينساغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في الآية مشروطًا وجزاء وجعل وقوع الشكر شرطًا ومجزيا واللازم من ذلك عقلًا تقدم المراد وهو الشكر على الإرادة وهي الرضا ولغة تقدم المشروط على الشرط فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الإرادة عقلًا ونقلًا تعين المحمل الصحيح له وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازي به المرضى عنه من الثواب والكرامة فيكون معنى الآية والله تعالى أعلم وان تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضى عنه، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر فجري الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة وانتظم ذلك قتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الإرادة عقلًا، ومثل هذا يقال في قوله تعالى: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} أي لا يجازي الكافر مجازاة المرضى عنه بل مجازاة المغضوب عليه من النكال والعقوبة انتهى.
لا يقال: حيث كان قوله تعالى: {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} جزاء باعتبار الأخبار كما أشير إليه فيما سلف فليكن قوله تعالى: {يَرْضَهُ لَكُمْ} جزاء بذلك الاعتبار فحينئذ لا يلزم أن يكون نفس الرضا مؤخرًا لأنا نقول: مثل هذا الاعتبار شائع في الجملة الاسمية المتحقق مضمونها قبل الشرط نحو {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ} [الأنعام: 17] وفي الفعل الماضي إذا وقع جزاء نحو {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] وأما في الفعل المضارع فليس كذلك والذوق السليم يأبى هذا الاعتبار فيه ومع هذا أي حاجة تدعو إلى ذلك هنا ولا أراها إلا نصرة الباطل والعياذ بالله تعالى، ثم أنه يعلم من مجموع ما قدمنا حقية ما قالوا من أنه لا تلازم بين الإرادة والرضا كما أن الرضا ليس عبارة عن حقيقة الإرادة لكن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قسما الإرادة إلى قسمين تكوينية وشرعية، وذكرًا أن المعاصي كالكفر وغيره واقعة بإرادة الله تعالى التكوينية دون إرادته سبحانه الشرعية وعلى هذا فالرضا لا ينفك عن الإرادة الشرعية فكل مراد لله تعالى بالإرادة الشرعية مرضى له سبحانه وهذا التقسيم لا أتعقله إلا أن تكون الإرادة الشرعية هي الإرادة التي يرتضي المراد بها فتدبر هذا، وقرأ ابن كثير. ونافع في رواية، وأبو عمرو. والكسائي {يَرْضَهُ} باشباع ضمة الهاء، والقاعدة في أشباع الهاء وعدمه أنها إن سكن ما قبلها لم تشبع نحو عليه وإليه وإن تحرك أشبعت نحو به وغلامه وههنا قبلها ساكن تقديرًا وهو الألف المحذوفة للجازم فإن جعلت موجودة حكمًا لم تشبع كما في قراءة ابن عامر.
وحفص وإن قطع النظر عنها أشبعت كما في قراءة من سمعت وهذا هو الفصيح وقد تشبه وتختلس في غير ذلك وقد يحسن أشباعها مع فقد الشرط لنكتة، وقرأ أبو بكر {يَرْضَهُ} بسكون الهاء ولم يرضه أبو حاتم وقال: هو غلط لا يجوز، وفيه أنه لغة لبني كلاب، وبني عقيل إجراء للوصول مجرى الوقف.
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره، وقد تقدم الكلام في هذه الجملة وكذا في قوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فتذكر.


{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)}
{وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} من مرض وغيره من المكاره {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} راجعًا ممن كان يدعوه في حالة الرخاء من دون الله عز وجل لعلمه بأنه عزل من القدرة على كشف ضره وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، واستظهر أبو حيان أن المراد بالإنسان جنس الكافر، وقيل: هو معين كعتبة بن ربيعة {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ} أي أعطاه نعمة عظيمة من جنابه من الخول بفتحتين وهو تعهد الشيء أي الرجوع إليه مرة بعد أخرى واطلق على العطاء لما إن المعطي الكريم يتعهد من هو ربيب احسانه ونشو امتنانه بتكرير العطاء عليه مرة بعد أخرى، وقال بعضهم: معنى {خوله} في الأصل أعطاه خولا بفتحتين أي عبيدًا وخدمًا أو أعطاه ما يحتاج إلى تعهده والقيام عليه ثم عمم لمطلق العطاء، وجوز الزمخشري كونه من خال يخول خولًا بسكون الواو إذا افتخر، واعترض بأنه صرح في الصحاح أن خال عنى افتخر يائي والخيلاء عنى التكبر يدل عليه دلالة بينة، وأيضًا خول متعد إلى مفعولين وأخذه منه لا يقضي أن يتعدى للمفعول الثاني.
وأجيب عن الأول بأن الزمخشري من أئمة النقل وقد ثبت عنده وأصله من الخال الذي هو العلامة، وقد نقل فيه الواو والياء ثم قيل لسيما الجمال والخير خال من ذلك وأخذ منه الخيال وأما الاختيال عنى التكبر فهو مأخوذ من الخيال لأنه خال نفسه فوق قدره أو جعل لنفسه خال الخير كما يقال: أعجب الرجل فقد وضح أن الاشتقاق يناسبهما ولا ينكر ثبوت الياء بدليل الخيلاء لكن لا مانع من ثبوت الياء أيضًا وليس الاختيال مأخوذًا من الخيلاء بل الخيلاء هو الاسم منه فلا يصلح مانعًا لكن يصلح مثبتًا للياء، وعن الثاني بأنه ليس المراد أن خول مضعف خال عنى افتخر حتى يشكل تعديته للمفعول الثاني بل أنه موضوع في اللغة لمعنى أعطى وما ذكر بيان لما أخذ اشتقاقه وأصل معناه الملاحظ في وضعه له ومثله كثير فاصل خوله جعله مفتخرًا بما أنعم عليه ثم قطع النظر عنه وصار عنى أعطاه مطلقًا {نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ} أي نسي الضر الذي كان يدعو الله تعالى إلى إزالته وكشفه {مِن قَبْلُ} التخويل فما واقعة على الضر ودعا من الدعوة وهو يتعدى بإلى يقال دعا المؤذن الناس إلى الصلاة ودعا فلان الناس إلى مأدبته والدعوة مجاز عن الدعاء، والمعنى على اعتبار المضاف كما أشير إليه، ويجوز أن يراد بما معنى من للدلالة على الوصفية والتفخيم واقعًا عليه تعالى كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى} [الليل: 3] وقوله سبحانه: {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] والدعاء على ظاهره وتعديته بإلى لتضمينه معنى الإنابة أو التضرع والابتهال، والمعنى نسى ربه الذي كان يدعو منيبًا أو متضرعًا إليه وهو وجه لا بأس به، وما قيل من أنه تكلف إذ لا يقال دعا إليه عنى دعاه ولا حاجة إلى جعل ما عنى من مردود لحسن موقف التضمين واستعمال ما في مقام التفخيم. وفي الإرشاد أن في ذلك الجعل إيذانًا بأن نسيانه بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلًا من أن يعرفه من هو، وقيل: ما مصدرية أي نسي كونه يدعو، وقيل: هي نافية وتم الكلام عند قوله تعالى: {نَسِىَ} أي نسي ما كان فيه من الضر ثم نفي أن يكون دعاء هذا الكافر خالصًا لله تعالى من قبل أي من قبل الضر ولا يخفى ما فيه {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا} شركاء في العبادة، والظاهر من استعمالاتهم اطلاق الأنداد على الشركاء مطلقًا، وفي البحر أندادًا أى أمثالًا يضاد بعضها ويعارض، قال قتادة: أي الرجال يطيعهم في المعصية، وقال غيره أوثانًا {لِيُضِلَّ} الناس بذلك {عَن سَبِيلِهِ} عز وجل الذي هو التوحيد.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو، وعيسى {لِيُضِلَّ} بفتح الياء أي ليزداد ضلالًا أو ليثبت عليه وإلا فاصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور، واللام لام العاقبة كما في قوله تعالى: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ} [القصص: 8] بيد أن هذا أقرب إلى الحقيقة لأن الجاعل هاهنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال وأن لم يعرف بجهله إنهما اضلال وضلال وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلًا.
{قُلْ} تهديدًا لذلك الجاعل وبيانًا لحاله ومآله {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} أي تمتعًا قليلًا أو زمانًا قليلًا {إِنَّكَ مِنْ أصحاب} أي ملازميها والمعذبين فيها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتع وفيه من الاقناط من النجاة وذم الكفر ما لا يخفى كأنه قيل: إذ قد أبيت ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته.


{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)}
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل} إلخ من تمام الكلام المأمور به في قول، وأم إما متصلة قد حذف معادلها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه كأنه قيل له تأكيدًا للتهديد وتهكمًا به أأنت أحسن حالًا ومآلا أم من هو قائم واجب الطاعات ودائم على وظائف العبادات في ساعات الليل التي فيها العبادة أقرب إلى القبول وأبعد عن الرياء حالتي السراء والضراء لا عند مساس الضر فقط كدأ بك حال كونه {ساجدا وَقَائِمًا} وإلى كون المحذوف المعادل الأول ذهب الأخفش ووافقه غير واحد ولا بأس به عند ظهور المعنى لكن قال أبو حيان: إن مثل ذلك يحتاج إلى سماع من العرب، ونصب {ساجدا وَقَائِمًا} على الحالية كما أشير إليه أي جامعًا بين الوصفين المحمودين وصاحب الحال الضمير المستتر في {قَانِتٌ}.
وجوز كون الحال من ضمير {يَحْذَرُ} الآتي قدم عليه ولا داعي لذلك. وقرأ الضحاك {ساجد وقائم} برفع كل على أنه خبر بعد خبر، وجوز أبو حيان كونه نعتًا لقانت وليس بذاك، والواو كما أشير إليه للجمع بين الصفتين، وترك العطف على {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} قيل لأن القنوت مطلق العبادة فلم يكن مغايرًا للسجود والقيام فلم يعطفا عليه بخلاف السجود والقيام فإنهما وصفان متغايران فلذا عطف أحدهما على الآخر، وتقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة، وذهب المعظم إلى أنه أفضل من القيام لحديث: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقوله تعالى: {يَحْذَرُ الاخرة} حال أخرى على التداخل أو الترادف أو استئناف وقع جوابًا عما نشأ من حكاية حاله كأنه قيل ما باله يفعل ذلك؟ فقيل: يحذر الآخرة أي عذاب الآخرة كما قرأ به ابن جبير.
{وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ} فينجو بذلك مما يحذره ويفوز بما يرجوه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضمير الراجي لا أنه يحذر ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط، واما منقطعة وما فيها من الاضراب للانتقال من التبكيت بتكليف الجواب الملجيء إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل: بل أمن هو قانت الخ، وقدر الزمخشري كغيره مثلك أيها الكافر. وقال النحاس: أم عنى بل ومن عنى الذي والتقدير بل الذي هو قانت إلخ أفضل مما قبله. وتعقبه في البحر بأنه لا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة لدلالة مقابلة أعني {إنك مِنْ أصحاب النار} [الزمر: 8] عليه ولا يبعد أن يقدر أفضل منك ويكون ذلك من باب التهكم.
وقرأ ابن كثير. ونافع. وحمزة. والأعمش. وعيسى.
وشيبة. والحسن في رواية {مِن} بتخفيف الميم وضعفها الأخفش وأبو حاتم ولا التفات إلى ذلك، وخرجت على إدخال همزة الاستفهام التقريري على من والمقابل محذوف أي الذي هو قانت إلخ خير أم أنت أيها الكافر، ومثله في حذف المعادل قوله:
دعاني إليها القلب إني لأمره *** سميع فما أدرى أرشد طلابها
فإنه أراد أم غي، وقال الفراء: الهمزة للنداء كأنه قيل يا من هو قانت وجعل قوله تعالى: {قُلْ} خطابًا له، وضعف هذا القول أبو علي الفارسي وهو كذلك، وقوله تعالى: {قُلْ} على معنى قل له أيضًا بيانًا للحق وتصريحًا به وتنبيهًا على شرف العلم والعمل {هَلْ يَسْتوي الَّذينَ يَعْلُمونَ} فيعملون قتضى علمهم ويقنتون الليل سجدًا وركعًا يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم {والذين لاَ يَعْلَمُونَ} فيعلمون قتضى جهلهم وضلالهم كدأبك أيها الكافر الجاعل لله تعالى أندادًا والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد من منصف ومكابر، ويعلم مما ذكرنا أن المراد بالذين يعلمون العاملون من علماء الديانة وصرح بإرادة ذلك بعض الأجلة على تقديري الاتصال والانقطاع وأن الكلام تصريح بنفي المساواة بين القانت وغيره المضمنة من حرفي الاستفهام أعني الهمزة وأم على الاتصال أو من التشبيه على الانقطاع وعلى قراءة التخفيف أيضًا قال: وإنما عدل إلى هذه العبارة دلالة على أن ذلك مقتضى العلم وأن العلم الذي لا يترتب عليه العمل ليس بعلم عند الله تعالى سواء جعل من باب إقامة الظاهر مقام المضمر للاشعار المذكور أو استئناف سؤال تبكيتي توضيحًا للأول من حيث التصريح ومن حيث أنهم وصفوا بوصف آخر يقتضي اتصافهم بتلك الأوصاف ومباينتهم لطبقة من لا يتصف. وهذا أبلغ وأظهر لفظًا لقوله تعالى: {قُلْ} وجوز أن يكون الكلام واردًا على سبيل التشبيه فيكون مقررًا لنفي المساواة لا تصريحًا قتضى الأول أي كما لا استواء بين العالم وغيره عندكم من غير ريبة فكذلك ينبغي أن لا يكون لكم ارتياب في نفي المساواة بين القانت المذكور وغيره، وكونه للتصريح بنفي المساواة وحمل الذين يعلمون على العاملين من علماء الديانة على ما سمعت مما لا لا ينبغي أن يختار غيره لتكثير الفائدة، وأما من ارتاب في ذلك الواضح فلا يبعد منه الارتياب في هذا الواضح أيضًا فجوابه أن الاستنكاف عن الجهل مركوز في الطباع بخلاف الأول، ويشعر كلام كثير ان قوله تعالى: {أَم مَّنْ هُوَ} إلخ غير داخل في حيز القول والمعنى عليه كما في الأول بتغيير يسير لا يخفى، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تلا {أَم مَّنْ هُوَ قَانِتٌ} الآية فقال: نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد في طبقاته، وابن مردويه.
وابن عساكر عن ابن عباس أنها نزلت في عمار بن ياسر، وأخرج جويبر عنه أنها نزلت في عمار. وابن مسعود. وسالم مولى أبي حذيفة، وعن عكرمة الاقتصار على عمار، وعن مقاتل المراد ن هو قانت عمار. وصهيب. وابن مسعود. وأبو ذر، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس. أبو بكر. وعمر، وقال يحيى بن سلام: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت وفيها دلالة على فضل الخوف والرجاء، وقد أخرج الترمذي. والنسائي. وابن ماجه عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو وأخاف فقال عليه الصلاة والسلام: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو وآمنه الذي يخاف، وفيها رد على من ذم العبادة خوفًا من النار ورجاء الجنة وهو الإمام الرازي كما قال الجلال السيوطي، نعم العبادة لذلك ليس إلا مذمومة بل قال بعضهم بكفر من قال: لولا الجنة والنار ما عبدت الله تعالى على معنى نفي الاستحقاق الذاتي، وفيها دلالة أيضًا على فضل صلاة الليل وأنها أفضل من صلاة النهار، ودل قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى} إلخ على فضل العلم ورفعة قدره وكون الجهل بالعكس. واستدل به بعضهم على أن الجاهل لا يكافىء العالمة كما أنه لا يكافىء بنت العالم، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالباب} كلام مستقل غير داخل عند الكافة في الكلام المأمور وارد من جهته تعالى بعد الأمر بما تضمن القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم كما في قوله:
عوجوا فحيوا لنعمي دمنة الدار *** ماذا تحيون من نؤى وأحجار
وهو أيضًا كالتوطئة لأفراد المؤمنين بعد بالخطاب والاعراض عن غيرهم أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وأما هؤلاء فعزل عن ذذلك. وقرئ {يُذْكَرِ} بالادغام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8